اسمه كان هوية

عصمت سيف الدولة :
اسمه كان هوية ..

طلال سلمان


في الميدان سقط الفارس ، لكن سيفه ظل مُشهراً وضاءً كعمود من نار .
رحل عصمت سيف الدولة ، الرجل الذي استمر يفجر في لجة اليأس منابع للأمل ، ويرفض الاستسلام لا مكابرة بل إيماناً بأن في الأمة عافية وزخماً وطاقات هائلة لن تذهب بها انحرافات الحكام ولا هذه الاستكانة المؤقتة التي أشاعها تعب الثوار القدامى واستقالتهم من احلامهم وانقلابهم على ما كانوا يبشرون به وعلى من صدقهم من الناس فانخرطوا في النضال .
من قبل الرحيل بزمان طويل كان عصمت سيف الدولة قد تخطى بفكره حدود ” الشخص ” فبات حركة ناشطة لها أهلها في معظم الأقطار العربية … وتحولت كتبه الى منشورات خطرة تكافح كما المخدرات ويعتقل موزعها وناقلها وقارئها وسامعها بوصفهم مصادر للخطر على الأمن القومي والسلامة العامة .
من مكتبه في قلب قاهرة المعز ، كان عصمت سيف الدولة يفوض نفسه ، وهو المحامي الكبير ، بصلاحيات القاضي المسؤول عن كرامة الأمة وجدارتها ومناضليها الشرفاء ، يوكل نفسه عن المضطهدين داخل مصر كما في أرجاء المشرق العربي والمغرب العربي ، ويذهب فيواجه أنظمة الردة والطغاة والمروجين للتفريط واتفاقات الإذعان .
كان الانسان العربي قضيته .
وحتى اليوم الأخير ظلت الثورة فكراً ، ودعوة وتعبئة وتحريضاً ، برنامج عمله اليومي .
كتب آلاف الصفحات ، وجاب دنيا العرب محاضراً ، مناقشاً ، كواحد من الصحابة المكلفين بالتبليغ .
ووقف في عشرات المحاكم يرافع عن ” القضية ” محولاً قضاة السلطان إلى متهمين وكاشفاً الصورة الأصلية للسلطان ذاته فإذا هو طاغية أو مارق يتوجب الخروج عليه بالسلاح.
ولأنه رجل قانون فقد كان يحاول حماية شرف القانون ، فيتصدى لمحاولة ابتذاله وتسخيره لخدمة الأغراض والأحقاد وقمع الحريات وتبرير الطغاة وتزيين الخيانة .
ولأنه فارس نبيل فلقد كان يرفض الصمت على تواطؤ الحاكم ضد الدولة ومؤسساتها ، وكان يجتهد في استنقاذ فكرة الدولة وحماية المؤسسة من مخاطر التهديم والتزييف وتحوير دورها بحيث تصبح معادية للناس الذين أُنشئت من أجلهم والذين يقتطعون من قوتهم ثمن ادامتها .
ولأنه مؤمن بالإنسان وبحقوقه في التعبير عن نفسه وممارسة حريته ، فلقد انتدب نفسه للدفاع عن مختلف انواع المضطهدين بسبب أفكارهم : من ” الاسلاميين ” إلى ” الناصريين ” ومن الشيوعيين ” إلى ” الوطنيين التقليديين ” .
ربما لهذا كله فقد تخطى عصمت سيف الدولة دور الرجل أو الداعية فصار تياراً وفاخر عديدون من الرجال وفي اكثر من قطر عربي بأنهم ” عصماويون ” ، لأنهم آمنوا بدعوته ووجدوا أنفسهم في أفكاره ، وأفادوا من كتبه ومن مقالاته العديدة لبث الدعوة إلى التغيير … ولم تكن مصادفة أو نتيجة أخطاء في التقدير أن قدم الكثير من الرجال الى المحاكمة في أكثر من عاصمة عربية يحكمها طاغية ، بتهمة الانتساب إلى أفكار عصمت سيف الدولة .
روح مصر العربية ، أوروح العروبة في مصر ، مع انفتاح على الفكر العالمي المتقدم : لا هو متحجر أو متعبد لصنم التاريخ ، ولا هو فاقد لهويته مندفع مع موجات التحديث التي تدفع الناس الى التغرب وخيانة الذات .
كان اسمه هوية ،
وبرغم الانتكاسات وسيادة مناخ الهزيمة والانكسار ، فقد ظل عصمت سيف الدولة يقاوم مرارات العمر والمرض وموجات اليأس المتلاحقة حتى اللحظة الأخيرة .
ومؤكد انه مات والقلم في يده ، يكتب لأجيال آتية مبشراً بفجر جديد ، بهي ومضمخ بدماء الشهداء ، ولائق بكرامة الانسان العربي ، في القرن الحادي والعشرين .
القاهرة أقل وهجاً الآن . بعد انطفاء هذا القبس المتوهج والذي ظل يبشر ويحلم ويستولد آمالاً عظيمة من قلب الآلام العظيمة حتى توقف قلبه الكبير فأودع سيفه كتابه الأخير هاتفاً بالناس من حوله : لا تتوقفوا ، هيا أكملوا المسيرة نحو النصر العزيز والبعيد !

نشرت في السفير بتاريخ 4 نيسان 1996

أضف تعليق